فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال ناس: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه، فأخبرهم الله، فقال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص} فكرهوا ذلك فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: والله لو نعلم ما أحب الأعمال إلى الله فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} إلى قوله: {بنيان مرصوص} فدلهم على أحب الأعمال إليه.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} إلى قوله: {بنيان مرصوص}.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن مجاهد في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} إلى قوله: {بنيان مرصوص} قال: نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلس لهم: لو نعلم أي عمل أحب إلى الله لعملناه حتى نموت، فأنزل الله هذا فيهم، فقال ابن رواحة: لا أبرح حبيسًا في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيدًا.
وأخرج مالك في تفسيره عن زيد بن أسلم قال: نزلت هذه الآية في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت، فأنزل الله هذه فيهم، فقال ابن رواحة: لا أبرح حبيسًا في سبيل الله حتى أموت شهيدًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فدلهم على أحب الأعمال إليه فقال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنزل الله في ذلك {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي صالح قال: قال المسلمون: لو أمرنا بشيء نفعله، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} قال: بلغني أنها نزلت في الجهاد، كان الرجل يقول: قاتلت وفعلت، ولم يكن فعل، فوعظهم الله في ذلك أشد الموعظة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السرية، فإذا رجعوا كانوا يزيدون في الفعل، ويقولون قاتلنا كذا وفعلنا كذا، فأنزل الله الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران قال: إن القاص ينتظر المقت فقيل له أرأيت قول الله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} أهو الرجل يقرظ نفسه فيقول: فعلت كذا وكذا من الخير، أم هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإن كان فيه تقصير، فقال: كلاهما ممقوت.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي خالد الوالبي قال: جلسنا إلى خباب، فسكت، فقلنا: ألا تحدثنا فإنما جلسنا إليك لذلك؟ فقال: أتأمروني أن أقول ما لا أفعل.
قوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} الآيات.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كأنهم بنيان مرصوص} قال: مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} الآية، قال: ألم تروا إلى صاحب البناء كيف لا يحب أن يختلف بنيانه، فكذلك الله لا يحب أن يختلف أمره وإن الله وصف المسلمين في قتالهم وصفهم في صلاتهم فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به.
وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة يمسح مناكبنا وصدورنا، ويقول: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول، وصلوا المناكب بالمناكب والأقدام بالأقدام، فإن الله يحب في الصلاة ما يحب في القتال {صفًا كأنهم بنيان مرصوص}».
وأخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يضحك الله إليهم: القوم إذا اصطفوا للصلاة، والقوم إذا اصطفوا لقتال المشركين، ورجل يقوم إلى الصلاة في جوف الليل».
قوله تعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم} الآية.
أخرج ابن مردويه عن العرباض بن سارية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني عبد الله في أم الكتاب وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسوف أنبئكم بتأويل ذلك. أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى قومه ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام».
وأخرج ابن مردويه عن أبي موسى قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي قال: ما منعك أن تسجد لي؟ قلت: لا نسجد إلا لله. قال: وما ذاك؟ قلت: إن الله بعث فينا رسوله، وهو الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم برسول يأتي من بعد اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا.
وأخرج مالك والبخاري ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن لي خمسة أسماء: أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي».
وأخرج الطيالسي وابن مردويه عن جبير بن مطعم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا محمد وأنا أحمد والحاشر ونبي التوبة ونبي الملحمة».
وأخرج ابن مردويه عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء الله» قلنا يا رسول الله ما هو؟ قال: «نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي تراب الأرض طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم».
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {فلما جاءهم بالبينات} قال: محمد وفي قوله: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} قال: بألسنتهم.
وأخرج عبد بن حميد عن مسروق أنه كان يقرأ التي في المائدة وفي الصف وفي يونس {ساحر}.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {هذا سحر مبين} بغير ألف، وقرأ {والله متم نوره} بتنوين متم وبنصب نوره.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} الآية، قال: لما نزلت قال المسلمون: لو علمنا ما هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فبين لهم التجارة، فقال: {تؤمنون بالله ورسوله}.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} الآية قال: فلولا أن الله بينها ودل عليها للهف الرجال أن يكونوا يعلمونها حتى يطلبوها، ثم دلهم الله عليها فقال: {تؤمنون بالله ورسوله} الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {على تجارة تنجيكم} خفيفة.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله}.
أخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {كونوا أنصار الله} مضاف.
وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في قوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله} قال: قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلًا فبايعوه عند العقبة، فنصروه وآووه حتى أظهر الله دينه ولم يسمّ حيّ من السماء قط باسم لم يكن لهم قبل ذلك غيرهم، وذكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون ما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على محاربة العرب كلها أو يسلموا، «وذكر لنا أن رجلًا قال: يا نبي الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبي الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة. ففعلوا، ففعل الله».
قال: والحواريون كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام.
وأخرج ابن إسحق وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لاقوه بالعقبة: «اخرجوا إليّ اثني عشر رجلًا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم».
وأخرج ابن سعد عن محمد بن لبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: «أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل قومي» قالوا: نعم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {من أنصاري إلى الله} قال: من يتبعني إلى الله، وفي قوله: {فأصبحوا ظاهرين} قال: من آمن مع عيسى من قومه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس {فأيدنا الذين آمنوا} قال: فقوّينا الذين آمنوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن إبراهيم النخعي {فأصبحوا ظاهرين} قال: أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد أن عيسى كلمة الله وروحه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {فأيدنا الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {فأصبحوا} اليوم {ظاهرين} والله أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الصف:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم)
(بسم الله) كلمة من وقفه الله لعرفانها لم يصبر عن ذكرها بلسانه ثم لا يفتر حتى يصل إلى المسمى بها بجنانه: في البداية بتأمل برهانه لمعرفة سلطانه، ثم لا يزال يزيده يفي إحسانه حتى ينتهي يفي شأنه بالتحقق مما هو كعيانه.
قوله جل ذكره: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
مَنْ أراد أنْ يصفوَ له تسبيحُه فَلْيَصَفِّ قلبَه من آثار نَفْسِه، ومَنْ أراد أن يَصْفُوَا له في الجنَّةِ عَيشُه فَلْيُصَفِّ من أوضارِ ذَنْبِهِ نَفْسَه.
قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقولونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقولوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
جاء في التفاسير أنهم قالوا: لو عَلِمْنا ما فيه رضا الله لَفَعَلْنا ولو فيه كل جهد.. ثم لمَّا كان يومُ ُأحُد لم يثبوا، فنزلت هذه الآية في العتاب.
وفي الجملة: خلفُ الوعدِ مع كلِّ أحَدٍ قبيحٌ، ومع الله أقبح.
ويقال إظهارُ التجلُّدِ من غير شهود مواضِع الفقر إلى الحقِّ في كلِّ نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء عمَّا حصل بالدعوى.. والله يحب التبرِّي من الحوْلِ والقوة.
ويقال: لم يتوعَّد-سبحانه- زَلَّةٍ بِمثْلِ ما على هذا حين قال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقولوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
قوله جل ذكره: {إٍنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}.
المحبةُ توجِبُ الإثارَ. وتقديم مُرَادِ حبيبك عَلَى مُرَادِ نَفْسِك، وتقديم محبوب حبيبك على محبوبِ نَفْسِك. فإذا كان الحقُّ تعالى يحبُّ من العبدِ أن يُقاتِلَ على الوجه الذي ذكره فَمَنْ لم يُؤثِرْ محبوبَ الله على محبوب نَفْسِه- أي على سلامته- انسلخ من محبته لربِّه، ومَنْ خلا من محبةِ الله وَقَعَ في الشِّق الآخر، في خسرانه.
قوله جل ذكره: {وَإِذْ قال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الفَاسِقِينَ}.
لمَّا زاغوا بِتْركِ الحدِّ أزاغ اللَّهُ قلوبهم بنقض العهد.
ويقال: لمَّا زاغوا عن طريق الرُّشْدِ أزاغ الله قلوبَهم بالصدِّ والردِّ والبُعْدِ عن الوُدِّ.
ويقال: لما زاغوا بظواهرهم أزاغ الله سرائرَهم.
ويقال: لمَّا زاغوا عن خدمة الباب أزاغ اللَّهُ قلوبهم عن التشوُّق إلى البساط.
ويقال: لمَّا زاغوا عن العبادة أزاغ اللَّهُ قلوبَهم عن الإرادة.
قوله جل ذكره: {وَإِذْ قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِنَّاتِ قالواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}.
بَشَّرَ كلُّ نبيٍّ قومَه بنَبِيِّنا صلى الله عليه وسلم، وأفرد الله- سبحانه- عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه آخِرُ نبيٍّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: فبيَّن بذلك أن البشارة به عَمّتْ جميعَ الأنبياء واحدًا بعد واحد حتى انتهت بعيسى عليه السلام.
قوله جل ذكره: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِّمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ}.
فَمَنْ احتال لوَهنه، أورامَ وهْيَه انعكس عليه كَيْدُه، وانتقض عليه تدبيرُه.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أن يُتِمَّ نُورَهُ}: كما قالوا:
ولله سِرٌّ في عُلاهُ وإنما ** كلامُ العِدَى ضَرْبٌ من الهَذَيانِ

كأنه قال: مَنْ تمنَّى أن يُطْفِئَ نورَ الإسلام بكيده كمن يحتال ويزاول إطفاء شعاعِ الشمس بنَفْثه ونَفْخِه فيه- وذلك من المُحال.
قوله جل ذكره: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
لمَّا تقاعد قومُه عن نصرته، وانبرى أعداؤه لتكذيبه، وجحدوا ما شاهدوه من صِدْقِه قَيَّض الله له أنصارًا من أمته هم: نُزَّاعُ القبائل، والآحاد الأفاضل، والساداتُ الأماثل، وأفرادُ المناقب-فبذلوا في إعانته ونصرة دينه مُهَجَهم، ولم يُؤثِروا عليه شيئًا من كرائمهم، ووقوه بأرواحهم، وأمَدَّهم اللَّهُ سبحانه بتوفيقه كي ينصروا دينه، أولئك أقوامٌ عَجَنَ الله بماء السعادة طِينَتَهم، وخَلَقَ من نور التوحيد أرواحهم وأهَلَّهم يومَ القيامة للسيادة على أضرابهم.
ولقد أرسل الله نبيَّه لدينه مُوَضِّحًا، وبالحقِّ مُفْصِحًا، ولتوحيده مُعْلِنًا، ولجهده في الدعاء إليه مستفرِغًا.. فأقْرَعَ بنُصْحِه قلوبًا نُكْرًا، وبصَّرَ بنور تبليغه عيونًا عُمْيًا.
قوله جل ذكره: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّن عَذَابٍ أَلِيم تُؤْمِنُونَ يِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
سمَّى الإيمانَ والجهادَ تجارةً لِمَا في التجارة من الرِّبح والخسران ونوعٍ تَكسُّب من التاجر- وكذلك: في الإيمان والجهاد رِبْحُ الجنَّة وفي ذلك يجتهد العبد، وخسرانها إذا كان الأمر بالضِّدِّ.
وقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي في ذلك جهادُكم وإيمانُكم واجتادُكم، وهو خيرٌ لكم.
ثم بَيَّن الربحَ على تلك التجارة ما هو فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ وَمَساكِنَ طَيِّبةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
قدَّم ذِكْرَ أهمِّ الأشياء-وهو المغفرة. ثم إذا فرغَتْ القلوبُ عن العقوبة قال: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ} فبعد ما ذَكَرَ الجنَّةَ ونعيمَهَا قال: {وَمَسَاكِنَ طَيِبَّةً}، وبماذا تطيب تلك المساكن؟ لا تطيب إلاَّ برؤية الحقِّ سبحانه، ولذلك قالوا:
أجيرانَنَا ما اوحشَ الدارَ بعدكم ** إذا غِبْتُموا عنها ونحن حضورُ

نحن في أكمل السرورِ ولكنْ ** ليس إلا بكم يتمُّ السرورُ

عيبُ ما نحن فيه يا أهلَ ودَّي ** أنكم غُيَّبٌ ونحن حضورُ

قوله جل ذكره: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ}.
أي ولكم نعمة أخرى تحبونها: نصرٌ من الله؛ اليومَ حِفْظُ الإيمان وتثبيتُ الأقدام على صراط الاستقامة، وغدًا على صراط القيامة.
{وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}: الرؤية والزلفة. ويقال الشهود. ويقال: الوجود أبدَ الأبَد.
{وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}: بأنهم لا يبقون عنك في هذا التواصل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
أي كونوا أنصارًا لدينه ورسوله كما أنَّ عيسى لمَّا استعانَ واستنصرَ الحواريين نصروه. فانصروا محمدًا إذا استنصركم.
ثم أخبر أنَّ طائفةً من بني إسرائيل آمنوا بعيسى فأُكْرِموا، وطائفةً كفروا فأُذِلُّوا، وأظفرَ أولياءَه على أعدائه.. لكي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الله سبحانه يُظْفِرُ أولياءَه على أعدائه. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الصَّفِّ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقولونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقولوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
قال أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عِبَادَةً أَوْ قُرْبَةً وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ إذْ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَا يَفْعَلُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَإِنَّ إيجَابَهَا فِي الْقول لَا يُلْزِمُهُ الْوَفَاءَ بِهَا.
وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيمَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلُ النُّذُورِ وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُونَهَا، وَكَذَلِكَ الْوَعْدُ بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُبَاحٌ، فَإِنَّ الْأَوْلَى الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا قول الْقَائِلِ: (إنِّي سَأَفْعَلُ كَذَا) فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ عَلَى شَرِيطَةِ اسْتِثْنَاءِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا جَائِزَ لَهُ أَنْ يَعِدَ وَفِي ضَمِيرِهِ أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَحْظُورُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدِ ضَمِيرِهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَمْ يَقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَقَعُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِهِ أَمْ لَا.
فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إطْلَاقُ الْقول فِي مِثْلِهِ مَعَ خَوْفِ إخْلَافِ الْوَعْدِ فِيهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قال: (إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا أَحُجُّ أَوْ أُهْدِي أَوْ أَصُومُ) فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ فِعْلِهِ يُؤَدِّيهِ إلَى أَنْ يَكُونَ قَائِلًا مَا لَمْ يَفْعَلْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: (
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قالوا: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَسَارَعْنَا إلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ الْجِهَادِ تَثَاقَلُوا عَنْهُ) وَقال قَتَادَةُ: (نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقولونَ: جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا، وَلَمْ يَفْعَلُوا) وَقال الْحَسَنُ: (نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَسَمَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ لِإِظْهَارِهِمْ لَهُ) وقوله تَعَالَى-: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي ضَعْفٍ وَقِلَّةٍ وَحَالِ خَوْفٍ مُسْتَذَلُّونَ مَقْهُورُونَ فَكَانَ مُخْبِرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَدْيَانَ الَّتِي كَانَتْ فِي تِلْكَ الزَّمَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ وَالْمَجُوسِيَّةُ وَالصَّابِئَةُ وَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ مِنْ السِّنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ تَبْقَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ أُمَّةٌ إلَّا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَقَهَرُوهُمْ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا وَشَرَّدُوهُمْ إلَى أَقَاصِي بِلَادِهِمْ فَهَذَا هُوَ مِصْدَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِيهَا إظْهَارَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يُوحِي بِهِ إلَّا إلَى رُسُلِهِ فَهَذِهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إظْهَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ قِيلَ لَهُ إنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ؛ لِأَنَّهُ قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يَعْنِي دِينَ الْحَقِّ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَسُولَهُ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ دِينَهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ فَجَائِزٌ أَنْ يُقال قَدْ أَظْهَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم.
كَمَا أَنَّ جَيْشًا لَوْ فَتَحُوا بَلَدًا عَنْوَةً جَازَ أَنْ يُقال إنَّ الْخَلِيفَةَ فَتَحَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْقِتَالَ إذْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَتَجْهِيزِهِ لِلْجَيْشِ فَعَلُوا وقوله تَعَالَى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إلَى قولهِ: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِوَعْدِهِ مِنْ أَمْرٍ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
آخِرُ سُورَةِ الصَّفِّ. اهـ.